عزيزي الشتاء، أرجوك ألّا تأتي هذا العام

 .لم أتكلم كثيرًا منذ بداية الحرب. أعيش هنا وحدي وليس عندي الكثير من الأصدقاء العرب

كما أني أحاول قدر المستطاع ألّا ألعب دور الضحية مع أصدقائي الأجانب. صمت طويل خيّم عليّ منذ عشرة أيام، أشارك رأيي مكتوبًا عبر مجموعات الواتساب، لكن كلامي بقي حبيس شاشة صغيرة، هي نافذتي الوحيدة المُطِلَّة على ذاكرتي وهي تتمزق

إلى أن خرق أحدهم صومي عن الكلام، وذلك أثناء اجتماع عمل يضم جميع العاملين في الشركة. سألتني إحدى الزميلات عن عائلتي، وعمّا إذا كانوا في مأمن من كل ما يحدث. نظرت حولي فرأيت وجوهًا تترقّب حديثي بنوع من الفضول، وهنا نطقتُ بأول كلمة مسموعة لي منذ بداية الحرب. قلتُ إن عائلتي في مكان آمن، لكنهم ليسوا بخير. يسكنون في منزل لا يزال قيد الإنشاء، في منطقة ترتفع عن سطح البحر أكثر من ألف متر. عائلتي تشعر بالبرد رغم جميع محاولاتي اليائسة لإيجاد مكان دافئ لهم. هنا انفجرت بالبكاء. لم أكمل حديثي، وضعتُ رأسي بين يديّ وبكيت بحرقة. أظنه انهياري الأول منذ ولادتي، في العادة أجيد التحكم  جيدًا، أتقن لعبة الهروب عبر رمي النكات يمنة ويسرة، لكنني حينها كنت عاجزًا تمامًا عن الهروب، كان وجه أمي يسكنني، عيونها وهي تغادر منزلنا لم تفارق مخيّلتي.

ليتني لم أنطق، ليتني بقيت صامتًا، ليتني اكتفيت بالحديث عن الطقس أو عن مباريات ليفربول، الذي بالمناسبة يقدم موسمًا جيدًا هذا العام. الكلام حين يخرج يصبح أثقل، مزّقني صوتي وأنا أقول إن عائلتي تشعر بالبرد، مصدر دفئي الوحيد لم يعد دافئًا، وأنا عاجز حتى عن الكلام، البكاء سلاحي الوحيد في مواجهة قلّة حيلتي، دموع غزيرة تعيدني إلى زمن كنت فيه أخشى صوت الرعد، وأهرع إلى حضن أمّي باكيًا شاكياً غضب السماء غير المبرر. أسأل نفسي الآن، إلى من تلجأ الأم حين تخاف؟ أي حضن يكفي لمن تحمل في قلبها خوف شعب بأكمله؟ هل يجيد أبي احتضانها؟ لم أره يومًا يعبّر عن حبّه لها، أظنهم يخجلون من التعبير عن مشاعرهم أمامنا، أو أن الحروب المتعاقبة لم تترك لهم سوى خليط من الخوف والغضب.

أكتب هذا النص من شقة صغيرة جدًا، وحدي والعالم بأسره في رأسي، أكتب عوضًا عن البكاء، لكنه ليس نصّي الأول هذا المساء، فقد أنهيتُ لتوّي رسالة أقول في مطلعها: “عزيزي الشتاء، أرجوك ألّا تأتي هذا العام…”

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا من أُبالغ وأفرط في الحب دائمًا

رسالة إلى ابنتي التي لم تأتي بعد

اعزائى البؤساء